الفصل الخامس
مــيــدان
رمســيـــس
دا العـمر عـمـار والقـلب خـضــار
مش عين
فى الجنة وعين فى النار
ولا
تـحـزن يـوم .... لأ متــبـسـمه
أنا
طيـــــــــــــــــــر فى السمـــــــــا
ــ كان خطونا أبطئ من ذلك رغم أنا كبرنا فى العمر يازياد
قلتها
لزياد ليتمهل قليلا على جسدى العجوز.. لكن ايقاع الجميع كان آخذا فى التسارع حتى
أرض هذا الميدان.. كان الخطو مازال يوغل اتساعا .. لا أدرى بالتحديد كيف
كانت ملامحى أوملامحك يا زياد أو كيف كانت ملامح الطريق .. وما هو لون الرداء الذى
ألبستنا اياه الأيام ..عيوننا رأت كل شئ من البكاء فالدموع والدموع والرحيل
فالعودة الى السعى عبر ممرات الزمن فى محاولات يائسة للوصول بينما لم نكن نفعل سوى
فقط محاولات للافلات من ارث مجتث من المرارة تملكناه عبر العصور ...
أنا كما
أنت كما الميدان ...كان لكل منا كبريائه المحموم الذى أبى أن يتركه وحيدا وأبى كل
منا أن يترك الآخر فسرنا معا ..نحن بخطانا التى ترقص على الأرض ..وهو بخطى التاريخ
التى يصنعها العابرون ..
نفرح
معا... حين تصبح كل خطوة وعدا بنشوة أكبر
نحزن
معا...حين يختل ايقاع الخط معلنا خيبة أخرى تضاف الى قائمة الخسارات المعلنة أو
غير المعلنة أمام الناس.
وننزف
..ننزف بصدق دمائنا الطازجة حينما يكون هنالك سببا جديرا لأن نفعل
يمشى
الآن فوق ظهرك رجل مسكين , شاعر ,مسافر عائد للتو من رحلة طويلة فى ذاكرة قصيرة
ولا يقوى على ترك قلبه كقرحة مشعة يشيعها شعراء أزمنة الكسب بالكلمات المبتذلة عن
التضحية واعطاء المثال ويبتسم وهو يرى روحه عرضة لصور العزاء المستهلكة .
كيف
يمكن للطريق أن يترك الأموات أحياء بداخله ...؟!
وكيف لك
أن تترك الأموات أحياء بداخلك ...؟ ولا تميت أحيائك ..!!
ووالكاف
فى نهاية السطر السابق فى مخيلتك أنت وحدك .. فعذرا على
فجاجة
السخريه.. فأنا كما تعرف لا أجيدها مثلك .. هل تدرى ..؟
بقدر ما
كنت أحبك .. كنت أحسدك .. كم كنت ذو خبرة عالية فى السخرية
فى رسم
عابريك بذلك العمق الكاريكاتورى الذى يصيب المرمى فى الوقت المطلوب .. لقدكنت
فاتنا بالفعل _فاتنا كشاعر _ ولكنكك كنت
متواضعا الى حد حرمان عابريك من معرفتك ومحبتك كانسان أيضا..
كنت
تشبه هذا الطريق الذى نسير عليه يا زياد....
يعطى
الأولوية دائما لكل ما هو مستعجل .. لكل ماهو راحل .. لكل ما هو موغلا فى البعد ..
مسافرون
.. هاربون .. مرتزقة .. قاطعى طرق .. دعاة حرب أو سلام .. رجال دين أوملحدين ..
شيوخ .. نساء.. أطفال .. رجال مثخنين بأوجاع الحياة أو من ذوى الحلل المصفحة .
عابرون
نحن لسنا الا عابرين نتوهم أن خطانا تلتهم الأرض وتسبح فى الفضاء وغرورنا يرسم لنا
ذلك العبور فى صورة اقامة دائمة بالرغم من أن اقامتنا ما هى الا رحيل مؤجل ...
ايه ذات
طفل وعلى بعد خطوات من هنا تشبع ذلك الجسد بذرات عشق مهين تعلم بعده القدرة على
الخسارة ... ففتح باب القلب على مصراعيه ووقف
وحيدا حين كان من حوله يستمتعون بمذاق شهوة شيطانية على كل حطام أنثوى يدلف عبر ذلك الطريق ..
الطريق
مشبع بفوضاه .. تهافت الحمالين على حمل الحقائب للمسافرين .. سائقوا التاكسى ..
ماسحوا الأحذية .. النشالون المرتقبون غفلة رجل ما .. بائعوا المعلبات .. المياه
الغازيه .. السجائر والجرائد البيضاء والصفراء والقرمزيه ..
صباح
وذو بداية متسارعة ..لا شئ الان يدعو للوجع .. أو ربما كل شئ يدعو للوجع .. ذاكرة
الأساطير تبهت رويدا رويدا .. وملت الأوطان دماء أبنائها وأعدائها وجلاديها على حد
سواء .. على حد سيف تقف شعيرات الروح ..والنفوس هاهنا على هذه الأرض تثائبت فى
تململ وازدراء حين أقلعت المقاهى عن أغتيال الشارع الهادئ بأحاديث الشيوخ المتشحين
بثياب نصر لا يجئ ..
كل شئ
مشبع بفوضاه .. كامرأة بعد رحيل واحدها ترتب فوضاها وتجلس فى فوضى الصمت تمتص شهوة
ماكان وما لم يكن ..
تلك
الفوضى التى يصنعها العابرون على ظهر الميدان .. هى تحديدا ما جعلك تقطع تلك
المسافة بين مدخل المحطة ومقهى سطوحى .. غير متأمل .. تتحاشى التمعن فى النظر الى
وجوه عابرين قد لا تراهم أبدا مرة ثانية .. أو ربما فقط كنت تحاول التأكد هل خذلك
هدؤ هذا الشارع أم أن زحام الذاكرة وفوضاها رفع راية العصيان مطالبا برفيق جديد..
قلت لك :
ــ جئنا
متأخرين ..
فأجبتنى
وأجبت الذاكرة :
ــ نعم جئنا أنت وأنا متأخرين .. كرجل يرتدى زى
وطن عمره تسعون عاما .. تغير الميدان وتغير المقهى كثيرا يا محمد .
نظرت
متأملا للمقهى
هنا
تناثرت بعض أجزاء من ذاكرة لم أحاول لملمتها من فوق المقاعد .. من على الطاولة ..
من أرضية المقهى التى تحفظ وقع خطاى وخطاك.. ربما كنت أدخرها ليوم كهذا .. لأجعل
من حضورها تأكيدا لحضورك .. لكسر جمود المحايدة فى لقاءات متباعدة لا أكثر ..
متأخرا
بمسافة جرح وبفجيعة وطن قلت لزياد :
ــ ..
حزنى بدأ يتبدد شيئا فشيئا.. ولكننى كنت حريصا على ألا أجعل صفحة الذاكرة تتعتم .
أجابنى
زياد مؤكدا :
ــ اذا
كان الحاضر هو ابن شرعى لما تكفل التاريخ بتسجيله فان للماضى ألف ابنا غير شرعى
"ولد سفاحا" لا نجرأ على الاعتراف به .
ثم ضحك
ضحكه صفراء حزينه ومستهزئه وقال :
ــ وكل
حياه هى حياة هامة لرجل ما برغم حجم تفاهتها.. وكل رجل يتكلم من واقع اسطورته
وحياته الشخصية .
قلت
لزياد مواسيا :
ــ لا
تحزن يا زياد لم يكن وقتها أحد يستطيع أن يملك الأفواه .. ووحده الزمن هو من تكفل
بتبرئتك
قال
زياد :
ــ صحيح
يا محمد كنت وكنا وكان .. صيغ أفعال من الماضى ترفع الفاعل وتنصب على المفعول به ..
ــ أنظر
يا زياد للشاهد ــ مقهى سطوحى ــ كيف كان وماذا أصبح .. ان الماضى كوشم قميئ نسعى
لازالته من الذاكرة..
وبالفعل
لم يكن سطوحى الا بارا يقصده السوقه وأرازل القوم حيث أردأ أنواع الخمور وأرخص
أنوع النساء من محترفى المتعة السريعة .. تسعون عاما ونيف مرت عليك
ــ "كان أسمه هو هو كازينو سطوحى"
قلت
لزياد ذلك ثم أضفت :
ــ هكذا
قال لى عم محمد الذى كان يعمل فيه ومن قبله أبوه وجده كانا يعملان أيضا ... ثم فجأة بين ليال وضحاها أرتفع بناء شامخ معلنا
للجميع أنهم يجب أن يضعوا برقعا من الحياء فوق الوجوه وعلى الرؤس والأجساد ..
ارتفع مسجد الفتح معلنا أن هناك آذان واقامة خمس مرات فى اليوم الواحد .. وعلى
الجميع أن يتذكر ذلك دون أن يذكرهم أحد بذلك ..
وبالفعل
لم يكن الأمر يتطلب الا قائمة أسعار جديدة يستبدل بها ما كان مباحا بالأمس وأصبح
محرما بقائمة أسعار جديدة تتفق بتواطئ لذيذ مع لافته عريضه تعلن الانتقال من
"بار سطوحى " الى "مقهى سطوحى "
نعم
ان
الأماكن قد تتبرأ من تاريخها فقط لمجرد أنه قد يطبعها بوصمة عار قد تظل عالقة بها
الى الأبد تماما مثلما تتبرأ أنثى من ما ضيها معلنة أنها لا تزال بكرا بالرغم من
الرائحة التى لاتزال عالقة بفرجها من مضاجعة الأمس...
جلست
أتأمل المكان كل شئ كما هو كما كان منذ تسعين عاما ..
النصف
العلوى من الحوائط سيراميك عليه نساء عاريات وضع فوق عوراتهم ورق حائط لمناظر
طبيعيه والنصف السفلى من الحوائط تم تجديده بالرخام ...
الاطار
الخشبى واللوحة الخشبيه الخاصة بالأسعار كما هى وملصق عليها ورقة بنفس الحجم حجبت
أسعار المشروبات الروحية..
الباب
الحديدى الجرار الذى يطوى داخل الجدار كما هو وتم تركيب باب خشبى أعيد طلائه خلف
الباب الحديدى .. لم يتغير الكثير.. الا أنه رغم الضجيج .... كل شئ يبدو شاحبا .. الأشياء تعزف لحنها
الخاص منكمشة على وحدتها وغربتها ..كأرملة تحاول أن تسترجع الذكرى
ــ ترى
هل كنت حقا فى انتظار العودة.....؟؟؟
أم أن
العلامة فى آخر السطر لاتنتمى للرحلة أصلا... مجرد مساحة فى الفراغ .. أو ربما
كانت هى الفراغ نفسه..
ــ
"المقاهى بيوت مخصصة للمتعة العلانية"
هكذا
قطعت السؤال بما يريحنى .. لأننى لن أتجرأ على محاولة مناقشة الامر .. أنا مستريح مؤقتا لهذا الوصف..
أضاف
زياد :
ــ أن
تجلس فى مقهى لبعض الوقت ..مثله كمثل مضاجعة المومسات فى بيوت الدعارة .. لا شئ
هناك لك .. لايمكنك أن تحتفظ بشئ .. تمتلك شئ .. لا شئ هناك سوى المتعة المؤقتة ..
ذلك الجسد الذى وضعت عليه أناملك ومررت على ربوعه وتركت بعضا منك داخله .. لا
تمتلك منه الا ذكراه .. أكواب العصير .. فناجيل القهوة.. مطفأة السجائر..ذلك
المفرش ناصع البياض حين تركت عبارة ما أو توقيع باسمك ترى هل سيظل موجودا أم
سيغتاله الزمن أو عابر آخر حين يترك جزءا من ذاكرته متجاهلا من مر بالأمس على هذا
المكان ..
قلت
محاولا الهروب والعودة لمحطة القطار حيث ريم وشادى فى الانتظار :
ــ نعم
ان
الأماكن محايده.. ونحن من يمنحها فى كل مرة أقنعة صالحة للاستخدام لنتركها وهى
ضاحكة متندرة بسذاجتنا نحن الذين نسعى بدون كلل بحثا عن شئ ما خيل لنا أننا أضعناه
ــ هيا
بنا من هنا يا زياد القطار سيرحل من دوننا
أمسكت
يديه وأنا أسحبه للخارج فى اتجاه العوده وكان فى رأسى صورة واحدة لسالومى وهى ترقص
.. كان مشهدا خرافيا مأساة كاملة ليس بها مكان للشهوة أو الجسد .
هناك
على قمة جبل المشنقة حيث رقصت سالومى بقدميهاالعاريتين .. رقصت لهيرود الملك مقابل
رأس حبيبها "يوحنا المعمدان" حيث كانت الخضرة اليانعة تعلو قامة الانسان
.. حيث كان الذهب والفضة والقصور والأسواق والتفاح والعنب والرمان .. حيث كانت
مملكة "هيرود" الباذخة
حيث
رقصت سالومى ..كعاشقة وكمنتقمة ..كامرأة تفضل أن يقتل من تحب على أن يتركها بين
أعمدة من رخام وسطح أملس .. اقشعر للأبد بعد أن كان شاهدا على جريمتها الشنعاء.
لا يا
زيـــــــــــــاد ..لأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأ
لم نكن
شهودا على شئ
لم نكن
غرقى لكى نسب ماء البحر أو نبتهل الى الله ليقذف لنا قشة نجاة ولم نكن شهداءا لكى تظل عيوننا مفتوحة _كما قيل_ كادانة وكعطاء
شخصى مدفوع بالايمان لصالح قضية محسومة منذ الأزل ... ولم نكن أطفالا يبتسمون للعب
البسيطة .. بل لم يكن لدينا لعب لنتقاسم اللعب من الأساس
لم نكن
أرواحا مجردة لنسمو على كل فكرة .. فكيف نسمو .. وقد ولدنا بنفوس تحن لأصلها
الطينى .. لم نكن لنسمو على وطن أو حبيب أو والد أو ولد أو أم أو حزن أو ساسة أو
ايدلوجيات أو ...أو.. أو... أو..
أنا كاذب
صغير
نفس
ولدت مخالفة لكل القواعد.. نزلت الى الأرض بقدمان لا برأس حتى ظن الجميع أننى ولدت
ميتا حين لم أبك كما يفعل كل المواليد حين ينزلون الى الأرض ..ساعتها قالت الداية
:
ــ
الولد نازل مخالف للدنيا .. يارب استر
وحين
صرخت باكيا.. قال أبى :
ــ
أخيرا نغزه الشيطان
وأنت يا
زياد تريد لبنى آدم أن يرتقوا على كيد الشيطان وعلى نفوسهم الأمارة بالسوء .. أنت
طيب .. وكان وعد الله حق حين أخر الشيطان ليوم البعث .. ولم نتعظ نحن من وعد ابليس
باحتناك ذرية آدم الا عباد الله المخلصين .. فهل كنت منهم وهل كنت أنا منهم يا زياد
, أم غرتنا حياتنا الدنيا .. أغلب بنى آدم وقعوا فى شركه ولكن الله غفار .. أفلا
تغفر أنت وتنسى .. انس يا زياد واغفر لأهلك وصحبك ولمن آذاك وللناس .. انس الحروب
والقتل والدماء والخيانة والغدر .. وعش ولو ليوم واحد بلا ماض .. اضحك كطفل صغير
يرقص تحت المطر وغنى وحلق بجناحيك فى السماء وقل شعرا .. لا تدخل فى نفق معتم من
جلد الناس وجلد ذاتك أرجوك يا ولدى .
وصلنا
للمحطة وكانت ريم وشادى ينتظران أمام العربة متطلعين فى وجوه الناس وحالما رآنا
شادى قال :
أهم يا
ماما .
أقتربنا
منهما وكان على وجه ريم علامات الغضب حين قالت :
ــ هل
أنتم عقلاء ؟! .. تتركانى هنا فى انتظاركما وأنا لا أعرف شئ .. أين كنتما ؟
رد زياد
وهو يبتسم :
ــ
للذكرى أحكام يا ريم .. ذهبنا لنزور صديقا قديم ..
أستشاطت
من الغضب وهى تقول :
ــ امرأة من جبال من تزوجتك والله .. الآن يا زياد
.. فى هذا الوقت ..ما هذا البرود الذى أنت فيه ؟!
وأنت يا
محمد الم تقل له شئ ؟؟!.. كنت أعتقد أنك أعقل من ذلك .. كنت سأموت من الرعب ..أشهد
أن لا الاه الا الله وأشهد أن محمدا رسول الله.
ضحك
زياد حتى بدت نواجزه وهو يقفز بقدميه من على الأرض وهو يقول :
ــ ألم
أقل لك أنك ستنطقين بالشهادتين فى يوم ما ..هها هها ههاههاههها
ردت ريم
وهى تدخل الى عربة القطار ممسكة بشادى ولا تزال على غضبها :
ــ أنتم
فى قمة البرود وعدم الاحساس بالمسئولية .
دخلت
أنا وزياد ورائها الى العربة ونحن نضحك وزياد يردد بجرس موسيقى بيتا من الشعر وهو
يهز جسده يمينا ويسارا كمشيتها :
ــ ريم
على القاع بين البان والعلم .. ترالم لم .. أحل سفك دمى فى الأشهر الحرم
عدنا
أطفالا صغارا فى المسافة بين القاهرة والاسكندرية .. ولم نكن نفعل شئ فى القطار
سوى جر شكل ريم والقاء النكات عليها وحتى شادى الصغير تضامن معنا فى الأمر منشكحا
لغضب أمه واستفزازها والذى لم يكن يمتلك المقدرة على فعله وحده فى أى وقت مما
جعلها تترك المقعد بعد خمس وأربعون دقيقة واستبداله مع شخص آخر وهى قائلة لنا :
ــ أنتم
عيال .. شادى أعقل منكم
بعد وقت
قليل وصلنا الأسكندرية .. لم تكن معنا ثمة حقائب سوى شنطتان( سمسونايت ) للأوراق
وخلافه والتى كنت أطلق عليها عدة الشغل فكان ركبنا دائما خفيفا .. كان فى انتظارنا
على المحطة حسام فياض ورجلان آخران لا أعرفهما ويبدو أنهما لمرافقتنا وتأميننا فى
الطريق توقعت ذلك لأن ريم كانت تحمل جنسية أجنبية ورغم عدم شهرتها الاعلامية الا
أنها على الأقل معروفة داخل الوسط الثقافى .. رحب بنا حسام ومن معه وهو يقودنا نحو
الباص وعرفنا والسيارة تقطع الطريق الى المكتبة الزملاء المشاركين فى الندوة
بالالقاء والمحاضرة .. وكلها كانت أسماء وشخصيات معروفة للجميع وان كانت لا ترتقى
لمنزلة الزعامة والتفرد الابداعى الا أنها كانت تحظى بالتواجد بصورة متكررة فى
الندوات والمؤتمرات .. كنت أعرف أنها ندوة متوسطة الحضور وأيضا متوسطة القيمة
الابداعية الا اذا فاجئنا أحد الحضور بشئ جديد لم نعتاده من قبل .. وما كنت أعلم
أن ثمة مفاجئة فى الطريق مفاجئة تأتى مرة واحدة ومريرة فى العمر لم أكن أعلم أنى سأقول بعدها ياليتنى
ما أخذتك يا زياد الى تلك الندوة.
***********************
فاصل زمنى غير محدد الزمن
سأل الشيخ تلاميذه قائلاً :
ــ أريد أن أعرف منكم كيف اهتديتم الى طريق الله ؟!
نظر الثلاثة بعضهم الى بعض ثم قال صاحب الركب :
ــ لقد التقينا ببعض فى الطريق وكل منا له قصة تختلف
عن الآخر أما عنى فقد اهتديت وأنا فى الرق
قال الشيخ :
ــ وكيف كان ذلك ؟!
قال صاحب الركب :
ــ هى حادثة غريبة مذ كنت وسأقصها عليك
ــ كنت فى السابعة حين باعنى مالكى الى أحد الأعراب ,
والحق أن الأعرابى كان يكرم مثواى , وعند بلوغى السادسة عشر من العمر كاتبنى
الأعرابى مقابل دنانير أدفعها له , وكان له ولد صغير يصغرنى بخمس سنوات ولما بلغ
الحادية عشرة كان أبوه يتركه يذهب معى ليلهو ويلعب حال قيامى برعى الغنم , وفى ذات
يوم غافلنى النعاس فنمت زمن يسيراً , وعقب استفاقتى تلفت حولى فلم أجده وأخذت أبحث
وأصرخ عليه ولا من مجيب , فأخذت الغنم مسرعاً وعدت بها إليه وقصصت عليه ما حدث ,
فبحث عنه كما فعلت وأكثر فلم يجده وقطع الفيافى وسأل بيوت القبيلة والقبائل التى
تجاورها ولم يعثر عليه أبداً , فقيدنى إلى نخلة فى وسط داره وأخذ يجلدنى كل يوم
قائلاً لى أنى بعت ولده لإحدى القوافل حتى أشترى عتقى بثمنه , وأنه إن لم يجد ولده
سيضرب عنقى , واستمر هذا الأمر قرب عام أو يزيد , وفى أحد الأيام دخل ولده الصغير
الذى لم يبلغ الأربع أعوام على ليلعب معى وكنت ألقنه من القرآن ليردد ورائى ,
حينها دخل الأعرابى علينا وكنت جالساً وظهرى له فأدرت عنقى لأعلم من الآتى ثم وجهت
وجهى مرة أخرى لولده وأنا أبتسم فأشهر سيفه مسرعاً ليضرب عنقى ولكنه توقف حين
وجدنى لم أتحرك فأرجع سيفه للوراء ثم قال :
ــ لماذا لم تتحرك أو تصرخ ألا تخاف من الموت ؟!
أجبته فى هدوء :
ــ ربما يكون الموت أخف وطأة من انتظاره
فسأل فى لهفة :
فهل بعت ولدى ؟
فأجبته :
ــ وإن لم أك قد بعته فما حدك فيما فعلت ؟
قال الأعرابى :
ــ القاتل عليه الحد أو الدية لأهل القتيل , وما أنا
بقاتل وما أنت بمقتول .. ولم أضربك إلا عشر جلدات كل يوم .. وإن كان على حد فأنت
حر ؟
فقلت :
ــ أوكل يوم , وما أغفلت يوم .. أما فى الدنيا فأنا
عبدك وأما عند الله فقد احتملت بهتاناً وإثماً مبيناً ولقد علمت قول الله تعالى :
{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ
مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً }
فقال الأعرابى :
ــ صدق الله وإن صُح ظنى .. اذهب فأنت حر لوجه الله
ورفع سيفه وقطع حبل وثاقى , وفى اليوم التالى جائته
البشرى تخبره أن أقواماً وجدوا إبنه عند أهل بيت فى إحدى البلدات بعد أن كان فى
البيداء مغشياً عليه حال مرورهم فى قافلة
عابرة على ديار الأعرابى .
ومن يوم عتقى وأنا أجوب القرى طالباً العلم حتى دلنى
شيخ طاعن فى السن على طريقك , وعلى علمك وورعك فعقدت النية على الرحيل اليك وقابلت
صاحبىَ فى المسير إليك ..
وهذا ما كان منى
فتبسم الشيخ وقال :
ـ هداك الله .. وعسى أن يكتب لنا وإياك حسن الخواتيم .