الفصل السابع
فى رثاء الرحيل والكتابة
ماذا تلدين الآن
طفلاً أم جريمة
أمل دنقل ( سابقاً )
فالأحياء هم أبناء عم الموت
والموتى نياماً هادئون
محمود
درويش
يقولون أن عيون الشهداء تبقى مفتوحة كإدانة وكعطاء رمزى
لصالح قضية محسومة منذ الأزل .. وها قد مات زياد وماتزال صورة وجهه المبتسم وعينيه
المفتوحتين لم تفارق القلب والعقل والذاكرة على حد سواء , كان وجهى هو آخر ما رآه
وكان يبتسم شاكراً إياى أنا من سقته بنفسى الى موت لا يليق به , يموت زياد فى وقت
يصير فيه القتلى إحصاءاً لضحايا الإضطرابات كأى شخص من الغوغاء والغثاء ولا تهتز
له البلاد وكيف تهتز أوطان فر من بطشها ــ فى الأصل ــ حاملاً قلبه كحقيبة ممتلئة
بالذكريات , تمر صورته كل دقيقة من أمامى فأبكيه تارة وأخرى أبحث فى عينيه عن هوية
القتلة , أنا أعرف جيداً أن مقتل زياد أكبر من جرم عابر أو إختيار عشوائى , كان
زياد شاهداً على ما لم يعلمه أحد , شاهد للضحايا وللأبطال معا حتى لو سخر منهم
بنظرة ومر كما قال درويش ( والتاريخ يسخر من ضحاياه ومن أبطاله .. يلقى عليهم نظرة
ويمر )
كان العزاء لىَ حين كان الأهل أغراباً فى أعين المعزين
وكان الميت غريباً فى أعين أهله وكان سرادق العزاء شاهداً على غرابة المشهد , يأتى
بعض المعارف وعدد من الأدباء يؤدون واجباً ثقيلاً يجب تنفيذه ثم يغادرون بعد وقت
قليل كى يجترون ذكريات الماضى ومواقفه التى قد يضيف لها البعض مآثراً وحكايا لم
تحدث حتى تزداد حرارة الموقف ومعزة المقتول ثم يتناوبون بينهم سماع القصائد فى
رثاءه ويناقشون موته عدداً من المرات ثم يعودون الى حياتهم مرة أخرى ,بينما ابن أخ
المقتول ( مجاز )
لا يعلم أن القتيل عمه متلقياً خبر الموت كموت شخص عابر
, حين كانت شذى تسألنى دائما فى فضول عمن مر فى هذا المساء فأتوارى بحزنى قائلاً :
ــ معارف
بينما كان عبد الجبار علوان يمر فى السرادق يميناً
ويساراً شرقاً وغرباً وذهاباً وإياباً ناظراً ومحدقاً بعينيه الىَ نظرة تقول :
ــ إياك إياك أن تخرج عن الصمت
فيتردد فى وادى الصمت صدى نظراته بلغة لا تقول فأتلاشى
بها وأقول بصوت عال :
ــ سبحان من له الدوام
يرد الحضور وبينهم عبد الجبار بنفس الصوت :
ــ سبحان الدائم الباقى
كان المشهد فى حد ذاته لا يدعو لأى صمت لأنه مكرر صورة
معادة من ألأمس القريب حين كنت فى الثلاثينات من العمر وحدثت وقتها أحداث الإرهاب
فى مصر وخاصة الصعيد فى ثمانينيات القرن الماضى والتحف الجميع بنفس الصمت وقرر أولى
الأمر أن يكون العنوان الرسمى لما حدث وما سوف يحدث " الإرهاب المسلح "
وأن تصبح الضحية الرسمية صورة الدين الأصولى فى أعين الناس , وما تم بليل لا يجب
أن يكشف عنه أى صباح
كنت قد سرحت قليلاً مع مشهد المطعم فى فيلم (PULP FICTION) ــ حينما استشهد الممثل الأسود بآية من سفر حزقيال
والتى مفادها ( إن طريق الرجل الصالح مكتنف من جميع الجهات بأنانية الرجال الأشرار
وظلمهم وطغيانهم مبارك الذى هو باسم الرب راعيا فى وادى الظلمات يحمى الشاة من بين
أنياب الذئاب )
ترى هل كان للعصافير التى على الأشجار أن تحمل ألماً
ووجعاً بديلاً عمن تراه أصيب بذلكم الألم أم أنها آثرت أن تضع أجنحتها فوق عيونها
كى لا ترى تفاصيل المؤامرة القذرة .
قالت شذى ـ لنا رب كريم ـ ولم يك لها أن تتخيل مقدار
كرمه , وحين رأى الجميع كرمه وضعوا أجنحتهم فوق أعينهم ثم رددوا مثل ما قالت شذى .
حين تسير بين الظلمات مستأنساً ومستوحشا ـ فى آن واحد ـ
من حافظة مليئة بالذكريات التى تنطوى كل ذكرى منها على الشقاء والسعادة والفرح
والحزن والألم والسرور والصدق والخديعة وكل شئ ونقيضة عليك وحدك أن تحمل عبء ترتيب
التباس مشاعرك تجاه كل شئ أو أن تحيا حياة الحيوان الأعجم الذى يعجز عقله وقلبه عن
إدراك قيمة الحس والشعور
ترى هل كانت نورا الزهران حكاية مشابه لحكاية مجاز قدر
لها أن تبؤ بالفشل ؟
وهل لها إبنة نزعت منها انتزاعا فى ذلك الوقت ؟
هل مر على مجاز وقت أحس فيه بما كتمه عنه الأهل والأصدقاء؟
وهل للأوطان عامة وللأفراد خاصة أن تعقد الموازنات على
حياة الأبرياء ثم يأتى ألأبرياء كى يعقدوا موازنات على حياة بعضهم البعض ثم يتزيوا
بزياً قشيباً موشحاً بالأسى من الوطنية .. هل أصبح رداء الوطنية فى نظر الناس هو
المقابل للإمتثال لأولى الأمر حتى لو كانوا من القتلة والسفاحين .. قالت شذى ــ
لنا رب ــ وكنا لا نعلم وقلنا جميعا من بعدها حين جاء الوقت ــ لنا رب ــ
وقال زياد ومن بعده مجاز ــ مثل ما قال الأولون ــ (
بالمقابل أضع كرامتى أسفل حذائى ) وقد سبق نوران الجارحى زياد حين قالها له بعينيه
وهو يمهد للرحيل عنه :
ــ أنت لم تعرف أحداً فى حياتك
( وبالمقابل أضع كرامتى أسفل حذائى )
يقول الممثل الأسود الذى يأخذ دور قاتل وسارق فى الفيلم
وهو يشهر مسدسه فى وجه سارق ـ ويحتمل أن يكون قاتل ـ آخر :
ــ ولكنى أحاول جاهدا وبصعوبة شديدة شديدة أن أكون
الراعى
ثم يتركه يرحل بما سرق من رواد المطعم
يفيقنى صوت الشيخ من حالة الشرود وهو يتلو :
( كلا بل لا تكرمون اليتيم [17] ولا تحاضون على طعام
المسكين [18] وتأكلون التراث أكلاً لماً [19] وتحبون المال حباً جماً [20] كلا إذا
دكت الأرض دكاً دكاً [21] وجاء ربك والملك صفاً صفاً [22] وجئ يومئذ بجهنم يومئذ
يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى [23] )
فأقول :
ــ سبحان الله .. صدق الله العظيم
كان اليوم هو آخر أيام العزاء وقد كان حسام فياض
متواجداً فى الساعات الأخيرة من العزاء هو ومجموعة من الأدباء منهم من كان حاضراً
ندوة زياد أما ريم فقد آثرت بعد دفن زياد أن تبكيه فى كنف الوحدة فذهبت بعد إنتهاء
الإجراءات وما يلزم لإنتهاء تلك الأمور الى الفندق تاركة لنا أمورا شكليه يتوجب
على أهله وأصدقائه وأحبائه القيام بها ..
كنت بين الحين والآخر حين أختلى بنفسى أجد أننى قد فقدت
صديقاً ومبدعاً على قدرٍ كبيرٍ من الشفافية وخالياً من أدران الحياة قلما يجاد
بأمثاله فأبكيه تارة وأخرى أتأمل ذكراه وثالثة أضبط نفسى متلبساً بإرتكاب جرم
كتابة الشعر وسط حالة العزاء العامة فألعن شيطان الشعر إن كان قد تنزل علىَ فى ذلك
الوقت ثم أتنحى عن واجب التواجد بين الناس فى العزاء وعينى تفيض من الدمع منتحياً
فى إحدى الغرف الجانبية لكى أرثيه فى قصيدة , كأن زياد يحتاج الى قصيدة جديدة
فأترك القلم وبطانة علبة السجائر (الورقة الداخلية) التى أكتب عليها وأقول لنفسى
لقد كان أحد المعلقات تمشى على الأرض .
ترى هل كان الأدب بخيلاً بكل هذا القدر كى لا يكرمه فى
حياته وهل كان الوطن أكثر بخلاً ؟!
هل كان لنا عذر فى تركه كى يكون مشاع أم أنه اختار طريقه
غير مرغم ولا كاره ثم أحب ذلك الطريق ؟!
فى الموت يكون حضور الأموات طاغياً بذكراهم , هم أبطال
ما مضى ونحن مجرد أدوار مساعده فى مسرح الحياة .
يدخل حسام فياض إلى الغرفة التى أجلس فيها وهو يقول :
ــ البقاء لله يا محمد .. شد حيلك
فأقول :
ــ سبحان الدائم الباقى
فيقول حسام :
ــ الجماعة يستئذنوك فى الرحيل
جهشت بالبكاء مرة واحدة وأنا أحتضن حسام وأقول له :
ــ لا أستطيع البقاء هنا يا حسام خذونى معكم أستنشق
الهواء قليلاً .
خرجنا من السرادق وكنت قد طلبت من عبد الجبار ومجاز أن
يقوما بما تبقى من دفع باقى حساب السرادق وانهاء باقى الأمور البسيطة المتبقية ,
ثم ذهبنا الى أحد المقاهى التى تطل على النيل وقد بدء ذلك الإحتقان والإختناق الذى
أصابنى فى الزوال تدريجياً فيما كنت ما أزال صامتاً متأملاً حال الجميع , كانوا
لايزالون يناقشون أمر مقتل زياد وهوية المستفيد من موته والبحث فى ذاكرتهم الضعيفة
التى لم تسعفهم المرات القليلة التى جمعتهم بزياد وما يعرفونه عن حياته فى تحديد
شخوص أعداء مفردين كان الأمر دائماً يصب على كيانات أو أنظمة أو دول ستستفيد حتماً
من موت زياد بحكم ما كان يعلمه من خلال عمله .
كانوا بين الحين والآخر ينظرون إلىَ ثم الى حسام نظرة
عتاب لأنى من دعوته الى تلك الندوه ثم يصمت الجميع فيقول أحدنا مزعناً لمشيئة الله
:
ــ قدر الله وما شاء فعل
كنت قد أكملت القصيدة التى بدأتها فى إحدى الغرف خلال
العزاء وأحببت أن أسمعها لهم رغم كل شئ , شعرت فى ذلك الوقت أنها ستخفف عن نفسى
حدة الذنب الذى لم يكن لى يد فى حدوثه وهو دعوة زياد للندوة فقلت فى هدوء لهم :
ــ أريد أن ألقى عليكم قصيدة
رحب الجميع بالأمر خاصة وأنهم كانوا يريدون إخراجى من
حالة الصمت والعزلة التى فرضتها على نفسى بين الجميع وستكون تلك بداية جيدة على
الأقل للبدء فى الكلام وتبادل الحديث معهم , فأخرجت الورقة ( بطانة علبة السجائر )
وأنا أذرف قطرات من الدموع بعد أن امتلئت عيناى بها وبدأت ألقى :
ــ أعذرونى إن كانت هناك هنات عروضية أو بعض
الكسور فهى مسودة لم أقم بتنقيحها بعد
القصيدة بعنوان ( يقول الحصان )
أتيت وحيداً .. لكيلا تظن بأنى سوف أحاربُ هذا المساء ..
وأن مائدة الله ما نُزلت من أقاصى السماء .. لكى يٌكرم المتعبين ..
الجنود المساكين ..الفاتحين ذوى الرتب العسكرية .. والخطباء
ذوى الحنجرة الذهبية .. من أقاصى الجنوب أتيت .. لكى تشترينى فى حانة الشعر ..ومن
سوء حظ الحصان أسر الى :
ـ أعددت نفسىَ كى تمتطينى ..أعددت نفسىَ كى تدخل الحرب
وحدك .. تحيا لوحدك ..تقتلٌ وحدك ..تُظلم وحدك ..فلا تدخل القدس معهم بثوب جديد ..لا
تحارب أعداء قومك .. كن عبقرياً كطفل صغير ..وارجمهم بالحجارة عند المروج ..
التحوت استكانت ... حين قلدها الطواغيت تاج النبوة / تاج الملوك ..
استكانت لكى يعبر الجيش نحو البلاد الأسيرة ... البلاد
التى أورثت عاشقيها شحوب البنفسج عند السلام .....
يقول الحصان :
ــ سلامُ عليك .. أتيت وحيداَ لألقى السلام
يقول الحصان :
ــ هل تعرف البيت ..تاج الأميرة /فستانها ..صولجان
الملوك وشارع القصر ..ساعة الأرض ..أبوك وأمك ..إخوتك المنهكين ..
رفاق الطفولة / حراسها ..شعراء البلاط وأعداءه .. القضاة
العدول وأضاضهم ..أسماء من أغضبوا الله ..هل تعرف الله ؟!
يقول الحصان :
أتيت لأحكىَ ما لم تراه ..
فهل تعرف البيت
؟! ..فى زمان النبوة طاف بى الناس حوله ..
رميت السلام عليه وأبصرته من قريب ..وعاهدت نفسى من
وقتها بألا أورث نسلىَ غير الفوارس .. وهلك الفوارس ..
هلك فوارس هذا الزمان ..
أتيت وحيدا .. أتيت وحيدا لألقى السلام ..
يقول الحصان :
امتطنى الأميرة
فى سالف الدهر قرب الفرات وداعبتها ..
كان ثوب الأميرة مثل السكاكر فى فم خيل الخليفة ..حلو
وناعم ..
حرير مغشى بحجر الزبرجد والأقحوان ..
يقول الحصان سمعت الأميرة ..سمعت الأميرة تحكى عليك ..
تسر لأقرانها عن مليك يجئ الى القدس رث الثياب بلغز قديم
يحيك من البحر سفن العبيد .. بمد وجزر وجزر ومد ..
يقود الجنود لتل بعيد ..
يطير الحمام .. يُقدُ السلام..
يقول الحصان :
أتيت وحيدا َ.. أتيت وحيداَ لألقى السلام
يقول الحصان بصوت خفيض :
ــ هل تعرف القصر والصولجان ؟.. وضع الملوك ومن سالف
العهد فى شارع القصر كل الرماة ..كل الرماة وكل السلاح وكل العتاد لكى يحفظوا
صولجان الملوك من الفاتحين ..
فإياك إياك ...
سهم الرماة وغدر الملوك وعهد الملوك ...بلاد تموت وأخرى
تعيش ليبقى السلام ..
أتيت وحيداً .. أتيت وحيداً لألقى السلام
يقول الحصان :
ــ أحس بقرب قيام القيامة .. فقل لى بربك هل ساعة الأرض
حانت أم سوف أبقى لأبحث عنك بزمن جديد ؟!
وهل أنذروك بها .. الملائك والشياطين أعنى .. وهل أنت من
عاش فى الأرض مثل اليتيم كهذا السواد
( أشار بحافره صوب خيل يسير كجيش عظيم )
أضاف الحصان : هم كل نسلىَ وهم لم يرونىَ جائوا ليلقوا
عليَ السلام وجائوا ليلقواعليك السلام
يقول الحصان :
ــ بقرب المخيم عاش اليتامى يحلمون بأخ وأب وصديق وأرض
.. عاش الثكالى بقرب الخليل وعكا وحيفا ويافا كى يحلمون بفتح قريب .. فإياك إياك
إخوتك المتعبين .. رفاق الطفولة / حراسها .. من علم القلب عزف النشيد لأرض بعيده
.. كبنت تعاقب أبطالها فى روايه .. نسيج السطور يغازل أبطال أرض الحكاية ثم ينثره
فى ربوع الكتاب ليعلن أن كل الشخوص ستأخذ قدرا من الحب يكفى لترضى المليحة عن مجمل
النص كى لا تموت المدينة
يقول الحصان :
ــ بربك لا تكتب الشعر كى لا تنوح عليك الخيول ..
إمتطاها الحطيئة والأصمعى وتاج العلاء وكل الفحول
فمن ذا الذى سوف يعصمك الآن من بطش شعر الهجاء وشعر
المديح وشعر الرثاء ونوح البكاء وسيف اللسان وشعر البلاط وأهل البلاط
يقول الحصان :
رأيت القضاة العدول على حافة الظلم
بين الزمان وبين
الزمان
يردون هجمة من يفسد الأرض
أو يصرخون لأضادهم
ما حكمنا بغير الذى أنزل الله
قال الحصان :
فهل تعرف أسماء من أغضب الله
هل تعرف الله
كنت هنالك قبل قيام القيامة
قبل الذى كان
قبل الزمان وقبل المكان
أعددت نفسى كى تمتطينى
لا تمتطينى
أنت على ظهرى الوهم
ووحدك وحدك
تبقى الحصان
انتهيت من إلقاء القصيدة وكانت عيون المستمعين قد حُملت
بكثير من الأسى والتأمل مع كتمانها لبعض الدموع التى أبت أن تنزل مؤثرة بقائها فى
قلوب أصحابها , وآثرت عيناى ألا تكتمها فانهمرت فى بكاء حار جعل الجميع يلتفون
حولى فى حالة عامة من المواساة تصحبها عبارات التخفيف عن النفس , بعد ذلك وجدت نفسى غير قادر على المكوث أكثر من ذلك فى
المكان فطلبت من حسام أن يوصلنى بسيارته الى السكن مودعا الجميع على وعد باللقاء
فى القريب العاجل بإذن الله