الفصل الثامن
أقول أنا العراق ...
وكل أرض بها روح تقول أنا العراق
أنا ذكر القطيع ...
وأفردونى لكى يستفردوا بمن استناخوا
عدت من العزاء وقد فقدت قدرتى على التركيز فى أى شئ , حال دخولى الى شقتى انتابتنى حالة هيستيرية من البكاء الشديد الذى هد ما تبقى من قواى وجعلنى اتمدد على السرير بغير حول أو قوة وجعلنى ادخل فى النوم بسرعة , ولم اشعر بعدد الساعات التى استغرقت فيها فى النوم الا أننى استيقظت بعد وقت وجسمى كله فى حالة من الإرهاق الشديد وكأنه مكسر الى ألف قطعة صغيرة , نظرت الى الساعة فوجدتها أوشكت على الاقتراب من الثانية عشر ظهرا , فدخلت الى الحمام ووضعت جسدى تحت الماء لفترة ثم جلست صامتا بغرفة المكتب على أحد الكراسى متاملا فى رفوف الكتب التى امامى , سائلا نفسى ترى ما الذى ستضيفه اليك كتابة رواية يا زياد ؟!
قمت من موضعى ومددت يدى الى الدرج الاخير فى المكتبة واخرجت سلسلة المفاتيح وفتحت الدرج , واخرجت صندوق نحاسى صغير وضعت صورة لطفل صغير فوق غطاءه وجلست على مكتبى وفتحت الصندوق اخرجت محتويات الصندوق فى هدوء والتى هى عبارة عن مجموعة من الأوراق القديمة :
( شهادة ميلاد مهترئة لزياد وحجة قديمة لمنزل كائن بمكان مولده , وحجة أخرى لأطيان زراعية , ووثيقة زواج ووثيقة طلاق , ومجموعة من الصور القديمة بالأبيض والأسود لزياد وأهله , وورقة مقطوعة من كتاب الجبرتى ومخطوط يدوى مثبت به نسب زياد حتى الاسم الخامس , وبعض المخطوطات الأثرية مثبت بها بعض المسائل الفقية ممهورة بخاتم كاتبها , ووثيقة ميلاد حديثة , وبعض النقود الورقية فى ازمان مختلفة )
بالاضافة الى عملات معدنية قديمة وفارغ طلقة رصاص , وفردة قرط قديمة للأذن .
تأكدت من عدم وجود أى فقد فى محتويات الصندوق الذى هو ما تركه زياد كإرث يئول حتما الى ورثته المعروفين والغير معروفين ثم أعدت الصندوق الى مكانه وأغلقت الدرج قائلا لنفسى ان الموتى لا يغيرون شيئا بعد موتهم ولكن الأحياء هم من يغيرون ويتألمون , ترى ما الذى ستضيفه إليك كتابة رواية يا زياد بعد موتك ؟!
أمسكت بيدى مذكرات زياد متأملا غلافها الشاحب , حائرا ومتردداً فى الشروع فى بدء قراءتها , كان على سطح المكتب بعض الأعمال الأدبية التى يفترض أن أقوم بمراجعتها وتقييمها لإحدى المسابقات الأدبية وأخرى مطلوب منى كتابة بعض الدراسات النقدية فيها وبعض الوريقات القليلة التى كتبت فيها خطوطا عريضة لرواية عن الأكراد وبالطبع لن تنشر تلك الرواية بإسمى .
(والأغلب أنها ستنشر بإسم شخصية كردية وهمية )
سرحت قليلا فى الكلمات السابقة والتى قالها لى أحد المسئولين وأضاف أنه من المطلوب فى تلك الفترة توجيه الرأى العام إلى مشكلة الأقليات الكردية من الناحية الأدبية , وقد قلت له حينها أنى لا أعرف شيئا عن مسألة الأكراد وأريد أى معلومات يمكن أن تفيدنى فى الكتابة .
فأجابنى ببساطة :
ـ ابتكر من العدم , أو ابحث فى الإنترنت , أكتب عن أى شئ حتى لو كانت حكايا جدتك القديمة , يجب أن تعلم أن الدعايا تخلق الأيديولوجيا ويمكن أن تهدمها بنفس الطريقة , لا أحد سيسألك حتى ولو كان الأكراد غير موجودين على أرض الواقع .
كانت الكتابة بالنسبة لى أمر أشبه ما يكون بكتابة الملحمة الإغريقية بواقع القرن العشرين أو تلاقى سوبرمان وسلاحف النينجا وبات مان وكابتن ماجد فى معركة ضد مازينجر وماوكلى والرجل الأخضر والسنافر , يمكننى تخيل ما أشاء بدون أى رقيب سوى ضمير الكاتب الإنسانى .
تلك كانت المعضلة أن نكون بشرا أصحاب ضمائر حيه أو أن نكون قطيع من الحيوانات نتبع من يصير الراعى , ولهذا كان زياد يتئلم طيلة حياته , ولهذا أغلقنا أعيننا ونحن نرى العراق يصرخ , ولهذا ظللنا أربعين عاما نشجب وندين ونعقد مؤتمرات وندوات ونكتب قصائد وقصص وروايات عن القدس وفلسطين والإحتلال وعند أول منعطف لنصرة حقيقية لما كتبنا ودافعنا عنه فى راحة ودعة وسلام نرمى كل مبدأ وكتاب فى أقرب سلة مهملات ونلعن حظنا العاثر , ونبحث عن أقرب مشجب لنعلق عليه خزينا المهين .
وأنا أسأل نفسى ترى ما الذى ستضيفه إليك كتابة رواية يا زياد؟! وينبغى أن يكون سؤالى ما الذى سيضيفة إلينا كتابك يا زياد ؟!
تناولت المذكرات من أمامى وبدأت أقرأ فى صمت .
فاصل زمنى غير محدد الزمن
قال صاحب الركب راجيا الشيخ :
ـ بالله عليك يا شيخنا قص علينا كيف اهتديت إلى طريق الله
قال الشيخ :
ـ أما عن الهداية فهى من عند الله وحده , وأما عن أثر الطريق قبلها فالولوج فى قصه قد يكون فتنة لغير أهل الإيمان , وإنها وإن كانت ثقيلة على النفس شبهة أن أدلكم على طريق باب مردود لا يولج إلا من أصحاب اليقين لعلم أو جهاد , إلا أنى أحسبكم من أهل الإيمان ولا أزكى على الله أحدا
أكمل الشيخ قائلا :
ـ كانت بلادا لا أسميها تستنيخ لعقود لتحمل وزرها من المعصية والفجور والرذيلة وولاية الشيطان , أهلها كسائر الناس أصناف وشعوب وقبائل وشيع إلا أن فيها طائفة قليلة العدد ليس لهم عدة ولاعتاد ولاسلطان غير الصلاة والتسبيح وولاية الله جل وعلى , استفاقت البلاد فى صبيحة يوم على تناقل خبر أن طائفة الصالحين قد اشتمت رائحة الجنة حتى وصل خبرهم للفجار والكفرة والطغاة وأولياء الشيطان والأشاوس والعامة , حتى تحزب لأمرهم شرار القوم وبغاتهم وأشدهم على الرحمن عتيا واجتمع بهم أكبر ولاة إبليس من الأشاوس سائلين اربابهم من أصحاب العهد التابعين :
ــ هل هم أنفسهم الرجال الذين اشتموا رائحة الجنة بالأمس ؟
أجاب أصحاب العهد :
ــ هم بأنفسهم
فقال الأشاوس بعد أن عزموا أمرهم :
ــ لا يُعَلَموا ولا يُتَعَلَم منهم , ويُحصَرُون حتى يُنزَعُ منهم السر الإلهى , ليُطفَئ نور الله , ولنا فى ذلك عليكم انتزاع الأمانة منهم , ولكم تملك الوسيلة لإنتزاعها , وعلينا لكم بيان سبل العهد , ولنا عليكم سمعاً وطاعةً فى سلوك سبل العهد
سأل صاحب الركب مقاطعا الشيخ :
ــ وما الأمانة ؟!
أجاب الشيخ :
ــ هذا ما سأله أصحاب العهد للأشاوس ولم يملكوا لها علما , أما الأمانة يا بنى فهى تلك التى نزلت فى جذر قلوب الرجال
سأل الصاحب الأول الشيخ :
وما الوسيلة التى سيملك أصحاب العهد لإنتزاع الأمانة ؟
أجاب الشيخ :
ـ المال والبنون والقوة والملك والعلو على الناس
ثم أضاف الشيخ قائلا :
ــ وقد أجاب أصحاب العهد الأشاوس بأن لهم السمع والطاعة من قبل أن يعلموا سبل العهد .
فقال الأشاوس :
ــ أحسنتم .., وسبله كما جائت فى كتاب ( المغربين ) إلا خمس لا يملكهن إنس أو جان ولا مؤمن أو كافر ولا برُ أو فاجر
ثم قال الشيخ وهو يزرف الدموع :
ـ ولتعلموا قبل أى أمر لب قيله ـ ( قوم لا يؤمنون ) ـ ذلك أنهم لن يملكوا الأمانة التى أودعت القلوب والتى دلالتها :
( رؤيا كفلق الصبح ) ........ وسبلهم لإنتزعها كمُغَيرِبانات الشمس جزءاً جزءاً بالتغريب عنها أوالإشراك فيها بأفعال المُغَرِبين...ولن ينزع الله وديعته انتزاعا
فيجب عليكم أولا أن تقسموا على ألا تخبروا أحدا بما تسمعوه منى ذلك أنه يحكى فى القصص القديم أن ضفدعا عاهدت عقرب أن توصلها للناحية الأخرى من النهر فوق ظهرها شريطة ألا تلدغها إلا أن الطبع قد غلب العقرب فلدغت الضفدع فى رأسها عقب وصولها للبر الآخر ومن وقتها لا تحمل الضفادع العقارب لعبور النهر .
قال صاحب الركب :
ـ نقسم ألا نخبر أحدا بما نسمع منك فى هذا الأمر
قال الصاحب الأول :
ـ نقسم ألا نخبر أحدا بما نسمع منك فى هذا الأمر
قال الصاحب الثانى :
ـ نقسم ألا نخبر أحدا بما نسمع منك فى هذا الأمر قال الشيخ وهو يقوم من مجلسه :
ـ والله على ما نقول شهيد , فلتذهبوا لقيام الليل فأنا أريد الخلوة , ولنلتق غدا بإذن الله